سياسات البنك العالمي في مجالي الماء والصرف الصحّي بتونس الأولوية للخصخصة على حساب الحقوق الأساسيّة

تسجل تونس أسوأ موجات الجفاف التي تسجل على الاطلاق. على الرغم من أن تغير المناخ قد فاقم من حدة الصعوبات في البلاد، إلا أن ندرة المياه يمكن أن تعزى إلى السياسات العامة والقرارات الاقتصادية بشكل رئيسي. هذه السياسات التي تمت بلورتها من خلال استراتيجيات متعمدة صاغتها عدة جهات أجنبية، والتي تخدم مصالح الدول الغنية التي تواصل استغلال وتحقيق أرباح من موارد أقاليمها الاستعمارية السابقة من خلال نهج وأساليب جديدة. يتناول هذا المقال سياسات البنك العالمي في مجال المياه والصرف الصحي في تونس وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية المباشرة وغير المباشرة على الشعب التونسي.

Authors

Longread by

Houcine Rhili
Illustration de: Fourate Chahal El Rekaby

Illustration de: Fourate Chahal El Rekaby

مقدمة عامة

الماء، هذه المادة الحيويّة التي ربط التاريخ الانساني نفسه بها، إذ لا وجود لحضارة في تاريخ البشرية منفصلة عن الماء ومصادره. ولعلّ من خلال هذه الأهمية المحورية للماء في حياة الانسان، ركزت البحوث العلمية الحديثة التي تكثفت خلال العشرين سنة الاخيرة مستفيدة من الثورة الصناعية الخامسة كل جهودها في البحث عن الماء وأشكاله في الكواكب القريبة من الأرض. كلّ ذلك في إطار البحث عن حلول أخرى تتجاوز هذه الأرض التي بدنا نخرّب مجالاتها من خلال التلوّث والانحباس الحراري والتحوّلات المناخية.

 مثّلت أهمّية الماء ومصادره سببًا مباشرا للعديد من الصراعات والحروب على مرّ التاريخ الإنساني. كما مثلت وماتزال أحد أسباب استعمار الشعوب بهدف السيطرة على مواردها المائية واستغلالها لإنتاج ما تحتاجه الدول الاستعمارية. 

إذ كما لا ننسى أنّ حضارات بأكملها كانت تُسمّى باسم مصادر الماء فيها   على غرار حضارة بلاد الرافدين (نهريْ دجلة والفرات)، وحضارة مأرب باليمن أين تم انجاز أوّل سُدٍ في تاريخ البشرية على وادي مأرب، وهو ما جعل المؤرخين ينسبون حضارة مملكة سبأ إلى ذلك السُدّ باعتباره كان السبب المباشر في ميلاد هذه الحضارة وانتشارها. لذلك لا يمكن أن ننظر الماء باعتباره مجرد مادة أوموردًا فقط، بل وجب النظر اليه من زاوية التنمية المستدامة الشاملة.

لكن رغم هذه الأهمية الكبيرة للموارد المائية على مرّ التاريخ، فإنّ تعقّد مجالات الحياة وتشعّبها وتطور الطلب على المياه، جعل هذه الموارد في وضعية هشّة، وأصبح العالم كَكُلٍ يعاني من تداعيات الأمن المائي، سواءٌ من حيث الكميات المتوفرة أو من حيث النوعية التي تدهورت بفعل تزايد مصادر التلوث. يُضاف إلى ذلك غياب سياسات ناجعة للصرف الصحّي، ممّا حوَّل هذه المياه إلى مصادر للتلوث ولتدهور إطار العيش.

لقد خلقت هذه الأوضاع والتغيّرات إشكالات حقيقية في علاقة بتوفّر الماء، وخاصّة الصالح منه للشُرب، لملايين البشر على سطح الأرض. ولعلّ الدول والشعوب المسمّاة فقيرة هي الأكثر عرضة لنقص المياه وتلوّثها، إن وُجدت أصلًا، وأنّ الأطفال وكبار السنّ والنساء هم أكثر الفئات المتأثّرة بهذه الوضعية. 

كما ساهمت التحوّلات المناخية الناجمة عن الانحباس الحراري في تقلّص التساقطات المطريّة وتغيّر مواقع هطولها ودورياتها الفصلية. ولعلّ المؤتمر الأخير لمنظمة الأمم المتحدة حول الماء، الذي عُقد ما بين 22 و24 مارس 2023 وهو ثاني مؤتمر حول الماء في تاريخ المنظمة العالمية، يمثّل صيحة فزع دولية حول المياه في علاقة بالتحولات المناخية وتأثيراتها على التساقطات وانتظامها وانحباسها.

تأثرت تونس، مثل جلّ بلدان العالم، بكلّ ما سبق قوله. وكلّما تزايدت أسباب التحولات المناخية من ناحية، وارتفع الطلب على الماء من ناحية أخرى، إضافة إلى تواصل نفس السياسات والخيارات الاقتصادية، كلّما تعمقت أزمات المياه في تونس.

هذا مع العلم أنّ أزمة شحّ المياه في تونس ليست مرتبطة عضويا بالتحولات المناخية، بل مرتبطة مباشرة بالسياسات العمومية والخيارات الاقتصادية، ولم تساهم التحوّلات المناخية سوى بتعميق هذه الأزمة. هذه السياسات العمومية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاجٌ لسياسات وخطط مدروسة وممنهَجة للعديد من الأطراف الأجنبية، وخاصة منها المؤسسات المانحة للقروض، التي سعت إلى تحديد الإطار العام للسياسات العمومية في مجال الماء والصرف الصحّي في تونس. وذلك خدمة لمصالح الدول الغنية التي يمثّلونها، والتي تريد المواصلة في استنزاف ثروات مستعمَراتها القديمة ولكن بطرق وسياسات ومناهج جديدة.

في إطار هذه الوثيقة البحثية المتعلّقة بسياسات البنك العالمي في تونس في مجاليْ الماء والصرف الصحّي، سنحاول التعرض للنقاط التالية:

  • لمحة عامة عن الماء والصرف الصحّي في تونس؛
  • سياسات البنك العالمي في مجال الماء والصرف الصحّي في تونس من خلال المشاريع التي يموّلها؛
  • تأثير هذه السياسات على مجاليْ الماء والصرف الصحّي، وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي للسكّان.

واقع الموارد المائية والصرف الصحّي في تونس

تم تصنيف تونس من طرف منظمة الامم المتحدة منذ 1995 من ضمن 27 دولة تعاني الضغط المائي. ويعني تصنيف "الضغط المائي" أنّ كمّية المياه العذبة التي تستخرجها البلاد من موائدها المائية الجوفية تفوق طاقة تجدّدها. ورغم هذا الإنذار الذي وُجٍّهَ لحاكمي تونس آنذاك، الّا أنّه لم يتغيّر شيء حتى اليوم في مقاربة البلد للموارد المائية إلا على مستوى التعبئة والاستعمالات.  

إذ تَواصل استنزاف الموارد المائية، خاصة في مجالات الإنتاج الفلاحي والصناعي، بنفس الطرق والخيارات التي تمّ اعتمادها منذ بداية السبعينيّات (مرحلة الانفتاح والليبرالية)، فأصبح اقتصاد تونس تبعا لذلك ومازال مجرّد فضاء للمناولة صناعيا وفلاحيا وخدماتيا. وقد كانت الموارد المائية هي الأكثر استنزافا واستغلالا في إطار نمط التنمية ذاك، وزادتها التحولات المناخية خلال العشر سنوات الأخيرة تأزّمًا وشُحًا.

واقع الموارد المائية في تونس: أزمة هيكلية لا ظرفية  

إنّ ما تعيشه تونس اليوم من تدهور للموارد المائية نوعيا وكميا، ليس مجرّد نتيجة مباشرة للأسباب التي يتم الترويج لها، مثل كون تونس تعاني الفقر المائي بسبب موقعها الجغرافي وتأثرا بالتحولات المناخية، بل هي نتيجة للخيارات التنموية والسياسات التي تم تطبيقها منذ سنة 1956 في مجال التصرف في الموارد المائية. فهدر الموارد في إنتاج فلاحي، مستنزف وتصديري، حوّل تونس إلى مجرّد وعاء لإنتاج ما يطلبه الأجنبي على حساب موارد البلاد المائية وتربتها.  

ولعلّ فشل المقاربة الوطنية تجاه الموارد المائية لا يقتصر على الخيارات التنموية المبنيّة على وهم التصدير، بل كذلك على غياب الرؤية الشاملة للموارد المائية.  ذلك أنه لم يتمّ التأسيس لسياسات مائية إقليمية تجعل التونسيين والتونسيات يستفيدون من مجاري المياه والأودية والموائد الجوفية العميقة المشتركة مع دول الجوار (مائدة القاري الوسيط الاحفورية) بلغة الأرقام، ومن خلال المعطيات وما ورد بالتقارير والدراسات التي تهتم بالشأن المائي، وخاصة الدراسة التي أعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (جوان 2011) حول الماء في تونس أفق 2050، فإنّ متوسط الإمكانات المائية السنوية القابلة للاستعمال، بقدراتنا الحالية في تونس، تتراوح بَين 3.8 و4.8 مليار متر مكعب. 1

وتتوزع هذه الإمكانات المائية السنوية حسب المصدر كما يلي:  

  • موارد سطحية: ما بين 2 إلى 2.7 مليار متر مكعب
  •  موارد جوفية: ما بين 1.8 إلى 2.1 مليار متر مكعب  

ورغم التحولات المناخية، بقيت كمية التساقطات السنوية تتراوح ما بين 30 و 36 مليار متر مكعب. وسيكون المآل المحتمل لهذه التساقطات طبقا للسياسات المائية العمومية الحالية كما هو موثّق في الرسم البياني أسفله:  

Graph 1  Annual Water Outcomes (in Arabic)

بناء على هذه المعطيات، يمكن القول أنّ امكانات تعبئة المياه السطحية مازالت متوفرة وبشكل كبير. إذ أنّ كمية كبيرة من مياه السيلان، وخاصة في فترات الأمطار الغزيرة، تُهدر في البحر والسباخ والمناطق الرطبة. وهو ما يعني انه بالإمكان وفق تصورنا مضاعفة تعبئة الموارد السطحية في العشر سنوات القادمة إلى مستوى 4.5 مليار متر مكعب عبر إعادة النظر في السياسات العمومية المتعلّقة بالسدود وإنجازها ومواقعها ورصد المال اللازم لأشغال حماية المياه والتربة، التي تمثل صمام الأمان لجدوى ومردودية السدود. 2

بذلك، فإنّ ما هو متاح لتونس من مياه سطحية، وبقطع النظر عن التحولات المناخية التي يمكن في بعض الفترات أن تكون لصالح البلاد من خلال الأمطار الغزيرة، يُعدُّ قادرًا على توفير الماء اللازم لتحقيق حاجيات الشعب التونسي وضمان سيادته الغذائية. إلّا أنّ هذا لن يحصل سوى في حالة وحيدة تتمثّل في تغيير السياسة الحالية للدولة في مجال الماء على كلّ المستويات: تعبئة واستعمالات واستثمار. 

أمّا على مستوى الاستعمالات، فإنّ 77 % من الموارد المائية تُستعمل حاليًا في النشاط الفلاحي و13% لمياه الشرب و 8% للصناعة و2% للسياحة. مع التذكير أنّ نسبة 77% المستغلة في الفلاحة، تُستعمَل لريّ 8% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة على المستوى الوطني، أي 450 ألف هكتار فقط. وبالتالي فإنّ 92% من الأراضي الزراعية في تونس هي أراضٍ زراعية مطريّة. 3

الصرف الصحي في تونس: مازال من الكماليات حتى تسهُل خصخصته

في جلّ البلدان، يرتبط الصرف الصحّي بالماء الصالح للشرب، سواءٌ على المستوى القانوني أو على المستوى المؤسساتي. إلا انه ليس هذا هو الوضع في تونس، إذ ما يزال يُعتبَر الصرف الصحّي من الكماليات. كما أنّ المؤسّسة المشرفة على القطاع ترجع بالنظر إلى الوزارة المكلّفة بالبيئة، وليس إلى الوزارة المكلّفة بالمياه. بل إنّ الديوان الوطني للتطهير كان عند تأسيسه يرجع بالنظر إلى وزارة التجهيز والإسكان.

وقد أُحدث الديوان الوطني للتطهير بمقتضى القانون عدد73 لسنة 1974 المؤرخ في 03 أوت 1974. وعُهدت له من خلال هذا القانون مهمّة تجميع المياه المستعمَلة العمرانية ومعالجتها، أو الحد من التلوث الموجود بها وتصريفها فيما بعد في المحيط الطبيعي (الأودية والسباخ والبحر). لكن طبقا للقانون عدد 41 لسنة 1993 المؤرخ في 19 افريل 1993 فقد تمّ تكليف الديوان الوطني للتطهير بمهمّة حماية المحيط المائي على المستوى الوطني.

بعد حولي 50 سنة على تأسيس الديوان الوطني للتطهير، يمكن تلخيص واقع معالجة مياه الصرف الصحّي في تونس والإمكانات المتوفرة للمؤسسة المعنية بالموضوع في الجدول التالي:

جدول رقم 1: الإمكانات المتوفرة للمؤسسة المكلفة بالصرف الصحي

عدد محطات التطهير

125 محطة

عدد البلديات المُتبنَّاة

193 من 350 بلدية

عدد الحرفاء

2.157 مليون حريف

طول شبكة التطهير

17848 كلم

كمية مياه الصرف الصحّي المُجمَّعة

290.8 مليون متر مكعب

كمية مياه الصرف الصحّي المعالَجة بمحطات التطهير

288.5 مليون متر مكعب

كمية المياه المجمعة وغير المعالجة

2.3 مليون متر مكعب

المصدر: تقرير نشاط الديوان الوطني للتطهير لسنة 2021

أمّا من حيث تطوّر خدمات الصرف الصحّي في تونس، فإنّه وجب التذكير بأنّ عدد حرفاء المؤسسة المعنية بالصرف الصحّي قد تطوّر من 123 ألف سنة 1975 إلى 617 ألف سنة 1995، ليصل إلى 2.15 مليون سنة 2012. وقد تطور عدد محطات المعالجة تبعًا لذلك من 5 سنة 1975، إلى 48 سنة 1995، ليصل عدد محطات المعالجة إلى 125 سنة 2021. 4   

هذا التطور الكمّي في مجال الصرف الصحّي في تونس لا يعكس بالمرّة تطوّرًا نوعيًا في مستوى المياه المعالجة. إذ تؤكد التقارير الرسمية، وخاصة الصادرة عن وزارة الفلاحة، أنّ نسبة إعادة استعمال مياه الصرف الصحّي المعالجة لا تتجوز 4% على المستوى الوطني، وذلك بسبب عدم مطابقتها للمواصفات التونسية المتعلقة بإعادة استعمال المياه المعالجة في القطاع الفلاحي. إذ يتم هدر أكثر من 270 مليون متر مكعب من المياه المعالجة سنويا، أي حوالي 50 % من طاقة خزن سُدّ سيدي سالم (أكبر سُدّ في تونس).

كما ركّزت سياسات الصرف الصحّي في تونس منذ 1975 على تجميع مياه الصرف الصحّي بالمحافظات الساحلية والسياحية، في ظلّ اهمال كُلّي للأحواض المائية الأساسية بالبلاد في مناطق أقصى الشمال والشمال الغربي، والموائد المائية الجوفية الاستراتيجية العميقة بالوسط والجنوب. إذًا بهذه المقاربة، اتّبع الصرف الصحّي "سوحلة" التنمية، أي ربط التنمية بالجهات الساحلية، فقط واهمال الجهات الداخلية وتحويلها إلى مجرّد هامش بشري وخزان للموارد

Tunisia/Boat in the desert/Dennis Jarvis/Flickr/CC BY SA 2.0

Boat in the desert in Tunisia/Dennis Jarvis/Flickr/CC BY SA 2.0

سياسات مجموعة البنك العالمي في تونس في مجالي الموارد المائية والصرف الصحّي

 

تقديم مجموعة البنك العالمي

تأسّس البنك العالمي يوم 27 ديسمبر 1945، أي في نفس الفترة التي أُسِّسَ فيها صندوق النقد الدولي. وكانت مهامه الأساسية آنذاك هي دعم الدول الأوروبية الغربية واليابان في إعادة بناء ترسانتها الصناعية وبناها التحتية. ويبلغ عدد الدول الأعضاء بالبنك العالمي 189 دولة، منها تونس التي انخرطت فيه يوم 14 أفريل 1958.

باعتباره الذراع المالي للنظام الرأسمالي، يُقرض البنك العالمي الدول كما يُقرض الشركات الخاصة. وقروضه ليست لتمويل المالية العمومية، بل تكون دائما لإنجاز مشاريع في القطاعات الاقتصادية. لكن لا يعني ذلك أنّه ليس للبنك العالمي سياسات واملاءات. فهو يعمل من خلال الإقراض والمنح إلى توجيه الدول وسياساتها العمومية إلى الأهداف المرسومة سلفا من قبل المهيمنين على هذه المؤسسات المالية، ونعني الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الغربيّة الغنيّة.

منذ 1956، تطور البنك العالمي ليصبح مجموعة متكاملة من المؤسسات المالية، في إطار تقسيم الأدوار بين مكونات المجموعة. إذ أصبحت مجموعة البنك العالمي تضم خمس مؤسسات مالية، أهمها بالنسبة لتونس: البنك الدولي للإنشاء والتعمير(IBRD)، وهو مؤسسة مالية تختص في اقراض الدول لإنجاز مشاريع تنموية، وكذلك مؤسسة التنمية الدولية (IDA) التي تأسست سنة 1960 وتُعنى بإقراض الدول الفقيرة.

تونس والبنك العالمي: بداية العلاقة وصعوبة نهايتها؟

تاريخ انخراطها فيهما. وكان من نتائج هذا الانخراط تأسيس البنك المركزي التونسي يوم 19 سبتمبر 1958، واعداد اول ميزانية للسنة الادارية 1959 لتونس كدولة مستقلة عن سلطة الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى اصدار العملة الوطنية الدينار التونسي.

وأمام فشل الرئيس الحبيب بورقيبة آنذاك، في دفع البورجوازية المحلية ذات الطابع "المركنتي" للاستثمار في اقتصاد ليبرالي منفتح، وخاصة في المجال الصناعي، وجدت الدولة ضالتها في مشروع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي صادق عليه مؤتمره سنة 1955 والذي كان تحت شعار "التعاضد".5

ونظرا لما يتطلبه مثل هذا البرنامج من تمويلات كبرى، خاصة بالنسبة لدولة ما لازالت تتلمس طريقها في البناء، فانه لم يكن من حل أمام الدولة التونسية آنذاك، سوى الاستعانة بالولايات المتحدة الامريكية، التي كانت تعتبر بورقيبة صديقا لها. فزار بورقيبة الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1961، وتحصل على جزء من تمويل البرنامج في حدود 238 مليون دولار. خمس المبلغ أي 47.5 مليون دولار كان قرضا ثنائيا والباقي، في حدود 190.5 مليون دولار كان في شكل منح ومساعدات أمريكية لتونس.6

ومن خلال الأرقام المتداولة حول برنامج التعاضد وكلفته، فإنها تتقاطع كلّها حول 620 مليون دولار على امتداد 9 سنوات من 1961 إلى 1969. منها 238 مليون دولار من الولايات المتحدة الامريكية و30 مليون دولار من صندوق النقد الدولي على ثلاث سنوات (1964-1966)، وباقي الكلفة تم تغطيتها من قبل البنك العالمي، وتُقدَّر بحوالي 352 مليون دولار، وهي قيمة الأموال الأولى التي ضخها البنك العالمي لتونس في بداية العلاقة.7

برنامج التعاضد، ومن خلال بنيته الاقتصادية والمؤسساتية، لم يكن برنامجا اشتراكيا، بل كان برنامجا لتأسيس رأسمالية الدولة، وقد مكّن من تأسيس المنشآت الوطنية الخدماتية والإنتاجية والتجارية. وكان واضحًا للبنك العالمي أنّ هذه المرحلة ضرورية لبلد مثل تونس لبناء جهاز تكنوقراطي بيروقراطي قادر على أن يتحول في أول فرصة إلى مستثمر خاص مستفيدا من التغلغل في مفاصل الدولة ومن إمكاناتها المالية والإدارية واللوجستية. وهو ما حصل فعلا أواخر سنة 1970 وبداية 1971، إبّان انطلاق سياسة الانفتاح، كردّة فعل على ما وصف بفشل سياسة التعاضد.8

ولئن تراجع حضور صندوق النقد الدولي في تونس منذ 1966، ولم يعد للواجهة الا سنة 1984، ببرنامجه الذي سُمّيَ "برنامج الاصلاح الهيكلي"، فإنّ البنك العالمي واصل اقراضه للدولة في العديد من المجالات الاقتصادية، وخاصة منها الفلاحة والموارد المائية والصرف الصحّي والتعليم والتكوين المهني ومساندة المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

كما تدعّم حضوره المالي والتقني واللوجستي بعد 14 جانفي 2011 (بعد الإطاحة بالرئيس بن علي).

كما أطّر البنك العالمي علاقته المالية بتونس بعد 2011، عبر تأسيسه لإطار جديد للإقراض تم تسميته "إطار الشراكة القطرية" (CPF) والذي يدوم خمس سنوات قابلة للتجديد.

طبقا للأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المالية التونسية (التي تنشر كل ثلاث أشهر بالموقع الرسمي لوزارة المالية التونسية Finances.gov.tn) حول الديون الخارجية للبلاد إلى حدود 2019، فإنّ البنك العالمي يتصدر قائمة المؤسسات المانحة متعدّدة الأطراف بحوالي 9456.9 مليون دينار، أي 33.56 % من قيمة القروض متعدّدة الأطراف.

وتُعتبر سنوات 2012-2016 الأكثر اقتراضا لتونس من البنك العالمي، إذ بلغت حوالي 1.15 مليار دولار. هذا مع العلم أنّ البنك قد ضاعف من اقراضه للبلاد بعد 2019، 9 خاصة في إطار برنامج دعم تونس للحدّ من تداعيات جائحة كورونا. ويمكن تلخيص قروض البنك العالمي خلال الفترة الممتدة من 2019 إلى 2023 كما يلي:

وإذا أضفنا إلى مستوى القروض الممنوحة من طرف البنك العالمي إلى حدود 2019، التعهدات والقروض الممنوحة من سنة 2020 إلى سنة 2023، 10 فإنّ قائم القروض الممنوحة من طرف البنك العالمي يصل إلى مستوى 14541.9 مليون دينار (حوالي 4700 مليون دولار).

بعد تعليق برنامج "إطار الشراكة القطرية" للفترة 2023-2027 مع تونس يوم 6 مارس 2023 بسبب تصريحات رئيس الجمهورية المتعلّقة بالمهاجرين جنوب الصحراء، والتي اعتبرها مسؤولو البنك العالمي تصريحات عنصرية، تراجع البنك الدولي عن قراره، وأمضى مع حكومة نجلاء بودن "إطار الشراكة القطرية" الجديد مع تونس يوم الخميس 22 جوان 2023 وبقيمة مالية حُدّدَت بحوالي 500 مليون دولار سنويا.11

شملت قروض البنك العالمي إلى تونس، ومنذ 1959 إلى اليوم، أهم القطاعات الحيوية. لكن هنالك قطاعات لها الأولوية وتستأثر بالنسب الأكبر من التمويل كالمياه والصرف الصحّي بنسبة 30.37%.12

ولمزيد توضيح نسب التمويل الخاصة بالموارد الطبيعية والصرف الصحّي، فقد استطعنا، من خلال مصادرنا الخاصة أن نحصل على أرقام في غاية الأهمية وتتعلق بتمويلات البنك العالمي لتونس خلال الفترة المتراوحة ما بين 2020 -2026، والتي تخص العديد من القطاعات، وخاصة منها قطاعات الماء والموارد الطبيعية والأمن الغذائي والصرف الصحّي.

إذ رصد البنك العالمي ما قيمته 2148 مليون يورو، لتمويل عدة مشاريع في قطاعات متعددة ومختلفة. وإذا استثنينا التمويلات الاستثنائية الخاصة بالحد من التداعيات الاجتماعية لجائحة كورونا، والتي كانت في ثلاث مراحل وبقيمة جملية بحوالي 708 مليون يورو، فإنّ بقية القطاعات قد حازت على 1440 مليون يورو. وكان نصيب المشاريع التي لها علاقة بالماء (تكثيف الفلاحة السقوية ومجابهة الكوارث الطبيعية والأمن الغذائي)، وتمويل الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الصرف الصحّي، 435 مليون يورو. أي حوالي 30.2 % من جملة التمويلات سالفة الذكر. وهو يطرح علينا جملة من الأسئلة: ما سبب أهمية قطاع الماء والصرف الصحّي بالنسبة لمجموعة البنك الدولي؟ وماذا عن سياساته تجاه هذين المجالين؟ وكيف أثّرت هذه السياسات على مردودية قطاع المياه والصرف الصحّي باعتبارهما من أهم الخدمات المباشرة للمواطنين؟

سياسات البنك العالمي في مجال الموارد المائية التونسية

مثّل الماء في تونس ومازال العنصر الحيوي للاقتصاد، وللإنتاج الفلاحي بشكل خاص. وتناسقا مع هذه الأهمية، تم اعداد العديد من المخططات الوطنية العشرية لتعبئة هذه الموارد، وتنظيم مجمل استعمالاتها الاقتصادية والبشرية. فكانت أولى البرامج المائية على المستوى الوطني، خلال الفترة المتراوحة ما بين 1961 و1990، متمحورة حول تعبئة الموارد المائية المتاحة. وذلك من خلال بناء السدود ومد قنوات نقل المياه وانجاز المناطق السقوية المرتبطة بهذه السدود، إضافة إلى برامج نقل مياه الشمال والوسط والجنوب.13 تطلبّت كلّ هذه المشاريع تمويلات ضخمة، كانت في أغلبها موجهة للإنتاج المُعَدّ كليا أو جزئيا للتصدير من أجل توفير العملة الصعبة، أي تصدير فائض قيمة الاقتصاد المحلي نحو اقتصاديات الدول الغنية.

وكان البنك العالمي منذ بداية الستينات المموّل الأكبر لهذه المشاريع المائية والفلاحية. ورغم صعوبة الحصول على المعطيات المتعلقة بالقروض الممنوحة من طرفه لتونس من المواقع الرسمية للدولة التونسية، وخاصة وزارتي المالية والفلاحة، إضافة إلى غياب المعطيات من المواقع الرسمية للبنك العالمي نفسه، الّا أنه، ومن خلال بعض الدراسات المنشورة، تمكنّا من التعرف على أنّ  البنك العالمي  قد ساهم خلال الفترة 1961-1969 بتمويلات قُدّرَت بحوالي 352 مليون دولار14، كانت موجَّهة إلى القطاع الفلاحي والبُنى التحتية المتعلقة بتعبئة الموارد المائية ونقلها، في إطار احداث التعاضديات الفلاحية المندمجة، التي كانت إحدى  أهم مكونات تجربة تأسيس رأسمالية الدولة. فتم انجاز عدة سدود بتمويل كامل أو جزئي من طرف البنك العالمي، منها سُدّ الأخماس سنة 1966، وسد كساب بباجة سنة 1969، وسد نبهانة بالقيروان سنة 1965، وسدي شيبة والمصري بنابل سنتي 1963 و1968. 15 وكانت هذه السدود المصدر الرئيسي للماء للمناطق السقوية الجديدة وللمشاريع الصناعية التي كانت مرتبطة بالإنتاج الفلاحي آنذاك في إطار الفلاحة المندمجة.

خلال السبعينات، واصل البنك العالمي دعمه لسياسة الانفتاح الاقتصادي في تونس، من خلال مواصلته تمويل المشاريع المائية، وخاصة منها المتعلقة بالبنى التحتية المرتبطة بالماء، كإنجاز سدود جديدة ومدّ قنوات نقل المياه إلى الوطن القبلي والساحل ومدينة صفاقس، إضافة إلى دعم تمويل انجاز المناطق السقوية العمومية والخاصة. وهو ما جعل قروض البنك العالمي في مجاليْ الماء والصرف الصحّي منذ 1961 إلى اليوم، تبلغُ حوالي 4383.33 مليون دينارأي حوالي 1423.15 مليون دولار حاليا.  وقع صرف 80 % من هذه القروض في مجال الماء و20 % فقط للصرف الصحّي.16

ورغم تراجع حضوره المالي عموما خلال الفترة 1995-2010، فإنّه حافظ على تمويل المناطق السقوية ومشاريع نقل المياه، باعتبارها مشاريع بنى تحتية أساسية وذات أهمية كبيرة في توجيه السياسات المائية على المستوى الوطني.

وإذا أردنا إجراء تقييم كميّ لتمويلات البنك العالمي لقطاع الماء في تونس، فإنّه يجب علينا أن نعتمد فترة 61-69 كمرجع أساسي. إذ قدّم البنك الدولي خلال تلك الفترة تمويلات تُقَدَّر بحوالي 352 مليون دولار، أي ما يعادل تمويل سنوي يقدر بحوالي 39 مليون دولار. منها على الأقل 30% موجهة للماء، أي ما يعادل 13 مليون دولار آنذاك. وهو مبلغ كبير إذا ما قارناه بالمبالغ المرصودة حاليا من طرف نفس البنك في مجال الماء.

بعد 14 جانفي 2011، وفي إطار دعم ما سُمّيَ بالانتقال الديمقراطي بعد الثورة، وفّر البنك العالمي لتونس خلال الفترة 2012-2016 خط تمويل ناهز 1150 مليون دولار، موزّعة على مجالات متعددة، كما يظهر في الرسم البياني التالي:

تم تخصيص 210 مليون دولار من خط التمويل هذا لتمويل مشاريع الماء والصرف الصحّي خلال الفترة 2012-2016، منها 100 مليون دولار لمشاريع الماء و110 مليون دولار للصرف الصحّي.17

كما بقي البنك العالمي، من خلال مؤسسته المالية IDA، وفيا لتمويل الماء الصالح للشرب والمناطق السقوية خلال الفترة 2017-2019 بمعدّلٍ قيمته السنوية 23.7 مليون دولار، وهي قيمة متواضعة بالمقارنة مع ما كان يموله البنك العالمي سنوات الستينيّات والسبعينيات.

وفي مجال مياه الشرب، تحصّلت الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه SONEDE على تمويل من طرف البنك الدولي لإنجاز أحد أهم مشاريعها في تونس، وهو مشروع "إيصال الماء الصالح للشرب للمراكز العمرانية وتونس الكبرى". وقام البنك العالمي بتمويل هذا المشروع بالكامل مع المكونات الإضافية، إذ انطلق المشروع سنة 2005 ليتواصل إلى سنة 2015. وقد بلغت الكلفة الأولية للمشروع 59 مليون دولار، فيما تكلّفت مكوناته الإضافية 20 مليون دولار. وبذلك تكون الكلفة الجملية للمشروع حوالي 79 مليون دولار، أي 217 مليون دينار.18

كما عمل البنك العالمي خلال الفترة 2005-2015 على تنظيم لقاءات بين الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه وعدّة مموّلين دوليّين بإشراف مؤسسة التمويل الدولية (IFC) التي تمثّل الضمان المالي للمُقرضين. ولعلّ ما أقدمت عليه مجموعة البنك الدولي، ممثلة في مؤسسة التمويل الدولية (IFC) يوم 7 أوت 2023، من إعطاء منحة بحوالي 7 مليون دينار (حوالي 2.27 مليون دولار) لشركة فسفاط قفصة لإنجاز الدراسة المتعلقة بمشروع "النقل الهيدروليكي" للفسفاط من مواقع الإنتاج إلى مواقع التحويل والمكونات المرتبطة به، يعتبر حدثا هاما وخطيرا في نفس الوقت. إذ تهدف هذه المنحة، وفق الموقف الرسمي، إلى مساعدة شركة فسفاط قفصة على دراسة سيناريوهات استعمال تقنيات ضخّ الفسفاط بالماء (من محطة تحلية مياه البحر المبرمج إنجازها بمنطقة الصخيرة الساحلية) من الحوض المنجمي، والمكونات المرتبطة بها، وذلك بكلفة تقديرية لهذا المشروع الضخم بحوالي 1100 مليون دينار. 19

أمّا القراءة المُعَمَّقة لهذا التوجه، فإنها تصبُّ حتما فيما يتطلع إليه البنك العالمي من اختراق منظومة استغلال الفسفاط عبر هذا المشروع. وذلك من خلال فرض شراكات بين شركة فسفاط قفصة والرأسمال الأجنبي، الذي سيكون له دور في مكونات هذا المشروع على مستوى الإنجاز والاستغلال، وبالتالي بداية الخصخصة التدريجية لقطاع الفسفاط الاستراتيجي من خلال أزمة المياه بالحوض المنجمي.

ويمكن القول أنّ تمويل البنك الدولي أو ضمان تمويلات لفائدة المؤسسة العمومية المكلفة بمياه الشرب في تونس، يُعَدُّ تحولا استراتيجيا في سياسة البنك واهتماماته بالماء بشكل مغاير لما كان عليه من قبل. إذ بدأ البنك العالمي وعدّة مموّلين آخرين، على غرار البنك الالماني للتنمية (KFW)، يطرحون فكرتان أساسيتان حول مياه الشرب: حوكمة المؤسسة المعنية بالماء، والدفع نحو اعتماد الأسعار الحقيقية لمياه الشرب. وهو التوجه المباشر نحو خصخصة مياه الشرب في المستقبل.

سياسات البنك العالمي في مجال الصرف الصحّي

مرّ قطاع الصرف الصحّي في تونس بالعديد من المراحل، إذ كانت انطلاقته سنة 1974 بتأسيس الديوان الوطني للتطهير، الذي كُلّف آنذاك بمهام تجميع ومعالجة مياه الصرف الصحّي بالمدن. ثم أُسنِدَت إليه سنة 1993 مهمة حماية الوسط المائي بشكل عام، وهو ما مثل تحوّلا نوعيا في مهام هذه المؤسسة العمومية المعنيّة بالصرف الصحّي. ويمكن إرجاع هذا التحول النوعي في مجال الصرف الصحّي إلى عامليْن أساسيّيْن:

  • إلحاق الديوان الوطني للتطهير بالوزارة المكلفة بالبيئة، ممّا أعطاه بُعدا بيئيا مكّنه من الحصول على تمويلات كبيرة، خاصة بعد قمّة الأرض بريو 1992.
  • دخول البنك العالمي كممول مهم لمشاريع الصرف الصحّي.

إذ قامت مجموعة البنك العالمي بتمويل تهيئة المحطات الكبرى لمعالجة مياه الصرف الصحّي، على غرار مشروع تهيئة وتوسعة محطة معالجة مياه الصرف الصحّي بمنطقة شطرانة بشمال العاصمة تونس (1996-1999)، والتي وصلت طاقة معالجتها بعد التوسعة إلى 40 ألف م3 في اليوم، إضافة إلى تركيز هاضم للحما في إطار تثمينه. وكانت كلفة هذا المشروع، الذي مُوٍّل بقرض من البنك العالمي، حوالي 40 مليون دينار (حوالي 32 مليون دولار آنذاك)، كما مَوَّل البنك العالمي مشروع محطّة العطار للصرف الصحّي بالمنطقة الغربية للعاصمة تونس، بكلفة 130 مليون دينار (حوالي 104 مليون دولار سنة 2005)، والتي تُعتبر محطة المعالجة الأكبر بالبلاد بطاقة تصل إلى 60 ألف م3 /اليوم. وذلك من خلال ربط حوالي 600 ألف ساكن بالجهة الغربية للعاصمة تونس بالشبكة العمومية للصرف الصحّي. 20

ومَوّل البنك الدولي كذلك محطة معالجة مياه الصرف الصحّي بمدينة صفاقس الشمالية، وعدّة محطات صغرى ومتوسطة بمحافظات سوسة والمنستير والقيروان وتطاوين. كما موّل مشروع قناة بحرية لتصريف المياه المعالجة من محطة التطهير بسوسة الشمالية. يُضاف إلى ذلك تمويله عدّة دراسات متعلقة بتطوير خدمات الصرف الصحّي واستعمال المياه المعالجة في الأنشطة الفلاحية. 21

كما يقوم البنك العالمي، ومنذ سنة 1995 إلى اليوم، بالمساندة الفنية واللوجستية للديوان الوطني للصرف الصحّي، في مجال خصخصة خدمات الصرف الصحي، أو ما سُمّىَ في البداية "الإفراق"، الذي انطلق سنة 1997 في إطار اعادة هيكلة الديوان الوطني للصرف الصحّي. كما سعى البنك العالمي ومنذ انطلاق البرنامج الوطني للتصرف في النفايات سنة 1996 إلى الربط العضوي بين مجاليْ الصرف الصحّي والتصرّف في النفايات الصلبة، وذلك حتى يَسهُل إدخال القطاع الخاص في المجاليْن تحت شعار "الشراكة بين القطاعين العام والخاص".

ولجعل هذه السياسة نابعة من اقتراحات محلّية، عمل البنك الدولي في هذا المجال على خلق مجموعة من "الخبراء" المحليين، لإنجاز التقارير والدراسات المبشّرة بفوائد خصخصة قطاع الصرف الصحّي والتصرف في النفايات، تحت مسمّيات وشعارات متعددة، والتي كانت في غالبيتها في مواقع هامة بالإدارة العمومية، وبالتالي لها العلاقات والمعطيات الكافية لاختراق الإدارة وإقناعها بتوجهات البنك العالمي. ويمكن استعراض بعض الدراسات على سبيل الذكر فقط: دراسة "من الافراق الى اللزمة في مجال الصرف الصحي" الديوان الوطني للتطهير-1999 -، دراسة " الجدوى الاقتصادية لمركز معالجة النفايات الخطرة " الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات -2000-، دراسة" الآليات المالية والجبائية لتشجيع القطاع الخاص في المجال البيئي: صندوق مقاومة التلوث نموذجا" وزارة البيئة والتنمية المستدامة – 2005 -.

وكنتيجة مباشرة لكل هذا الضغط المباشر وغير المباشر من طرف البنك العالمي و"خبرائه المحلّيين" في مجال الصرف الصحّي، تمّ تنقيح مجلة المياه الصادرة بالقانون عدد 16 لسنة 1975 المؤرخ في 31 مارس 1975 في إطار فتح مجال الماء للقطاع الخاص، ولو مرحليا، من خلال القانون عدد 116 لسنة 2001 المؤرخ في 26 نوفمبر 2001. فتم تنقيح الفصل 86 ليؤكد على أنّ الماء ثروة وطنية "يجب تنميتها وحمايتها واستعمالها بطريقة تضمن الاستجابة المستديمة".22 كما تم تنقيح الفصل 88، والذي نص صراحة على أنّه "يمكن الترخيص في إنتاج واستعمال الموارد المائية غير التقليدية (مياه الصرف الصحّي المعالجة)، التي تستجيب للشروط الخاصة باستهلاك الماء واستعماله للحساب الخاص أو لفائدة الغير في منطقة صناعية أو سياحية مندمجة معينة".

وكانت محطة معالجة مياه الصرف الصحي بمحافظة تطاوين والمنجزة بتمويل من البنك العالمي أولى المحطات التي يتم إسنادها لشركة خاصة لاستغلالها. وهو ما يعني رسميا فتح كل الأنشطة الرئيسية والثانوية للمؤسسة العمومية للقطاع الخاص في إطار لُزمة. وكانت شركة SEGOR الفرنسية، الشركة الأولى التي تفوز بهذه اللزمة. 23

وتَواصل التفويت في استغلال محطات معالجة مياه الصرف الصحّي إلى القطاع الخاص بالعديد من المدن إلى حدود سنة 2010. إلّا أنّ محطات المعالجة الصغرى، ونظرا لمحدودية جدواها الاقتصادية، فإنها لا تغري لا الشركات الخاصة من ناحية، ولا تعني البنك العالمي وسياساته من ناحية أخرى.

بعد صدور القانون عدد 49 لسنة 2015 المؤرخ في 27 نوفمبر 2015 والمتعلق بالشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، نجح البنك العالمي أخيرا في ماي 2023، في تأسيس أول شراكة بين القطاع العام، مُمَثَّلًا في الديوان الوطني للصرف الصحّي، والقطاع الخاص الأجنبي مُمَثَّلًا في الشركة الفرنسية SUEZ والمعروفة بعملاق الماء والصرف الصحّي في افريقيا، من خلال قرض يساوي 126 مليون دولار، أي حوالي 377 مليون دينار تونسي24.

ويتمثل المشروع في تهيئة واستغلال وتطوير 15 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحّي بمحافظات تونس وأريانة بالشمال، وصفاقس وقابس ومدنين وتطاوين بالجنوب الشرقي. ويهدف إلى تطوير معالجة مياه الصرف الصحّي بهذه المحطات عبر إضافة المعالجة الثلاثية حتى تكون المياه المعالَجة مطابقة للمواصفات المتعلقة بإعادة استعمالها في الأنشطة الفلاحية.

لكن لماذا لم يقدّم البنك العالمي هذا القرض مباشرة إلى المؤسسة العمومية حتى تقوم بالتحسينات الكفيلة بجعلها قادرة مستقبلا على انتاج مياه معالَجة مطابقة للمواصفات وقابلة للاستعمال الصناعي والفلاحي؟ الإجابة ببساطه: لان سياسته لا تهدف إلى دعم قدرات المؤسسات العمومية، بل هدفها اختراق القطاع العام لصالح القطاع الخاص، وخاصة الأجنبيّ منه. كما أنّ نجاح القطاع الخاص في اختراق مجال الصرف الصحّي، ولأكثر من 20 سنة، قد سهَّل على البنك العالمي أن يغامر بهذه الشراكة الكبيرة بين القطاعيْن العام والخاص في تونس.

بعد استعراضنا لكلّ القروض والمنح والتدخلات التقنية واللوجستية للبنك العالمي في مجاليْ المياه والصرف الصحّي، في إطار سياساته، فإنّه بات من الضروري عرض وتحليل انعكاسات هذه السياسات وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على قطاعيْ الماء والصرف الصحّي

Workers gathering hay in Tunisia Photo by Dennis Jarvis

Dennis Jarvis/Flickr/CC BY 2.0

Workers gathering hay in a field in Tunisia.

نتائج سياسات البنك العالمي في مجاليْ الماء والصرف الصحّي في تونس

في البداية وجب التذكير بأنّ البنك العالمي، وبقية المؤسسات المالية المانحة، لا تمول المشاريع التي لها علاقة مباشرة بالخدمات المواطنية في مجاليْ الماء والصرف الصحّي، بل تُموّل التجهيزات والبُنى التحتية الكبرى والمحطات المركزية لمعالجة مياه الشرب، أو انجاز محطات معالجة مياه الصرف الصحّي. أمّا الأشغال المتعلّقة بالبُنى الاساسية والقاعدية للخدمات في مجال الماء والصرف الصحّي كقنوات ربط المساكن بالماء، وقنوات ربط المساكن بشبكة الصرف الصحي، فموكولة للشركات العمومية المكلّفة بالخدمة. ذلك أنّ القروض الممنوحة تكون دوما موجّهة بمؤشّرات المردودية الاقتصادية للمشروع، أو إمكانية أن تكون التجهيزات والمحطات المنجَزة مشاريع مستقبلية للاستغلال من طرف القطاع الخاص، في شكل لزمة أو في إطار الشراكة بين القطاعيْن العام والخاص. ويلخّص الجدول التالي طبيعة المشاريع المُمَوَّلة بقروض خارجية في مجاليْ الماء والصرف الصحّي خلال الفترة 2017-2019:

جدول رقم 2: طبيعة المشاريع المُمَوَّلة بقروض خارجية في مجاليْ الماء والصرف الصحّي خلال الفترة 2017-2019

المشاريع

كلفة التمويل بالمليون دولار

نسبة التمويل

القنوات الكبرى لنقل الماء

128.9 28.6%

محطات التطهير القنوات الرئيسة

113.6 25.22%

السياسات والتصرف الإداري في مجال الماء

183.3 40.7%

تهيئة الأحواض المائية

13.7 3.04%

قنوات إيصال الماء للمساكن

8.3 1.84%

قنوات ربط المساكن بالتطهير

0.2 0.004%

حماية الموارد المائية

1.9 0.04%

التكوين والتربية في مجال الماء والصرف الصحّي

0.4 0.008%

الجملة

450.3 100%

المصدر: منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية

يتبيّن من خلال هذا الجدول أنّ مشاريع محطات معالجة المياه والقنوات الرئيسية لنقل الماء للمناطق السقوية العمومية والخاصة، أو لنقلِ مياه الصرف الصحّي إضافة إلى مشاريع التصرف والسياسات المائية، تستحوذ على 93.89% من التمويلات الأجنبية متعددة الأطراف خلال الفترة 2017-2019. 25 أمّا بالنسبة للمشاريع المرتبطة بخدمات القُرب للمواطنين في مياه الشرب والصرف الصحّي، إضافة إلى مشاريع حماية الاحواض المائية وحماية الموارد المائية والتكوين والتربية في مجالي الماء والصرف الصحّي، فإنها لا تتجاوز 6% من مجموع التمويلات الأجنبية في المجال. وبالتالي، وأمام الإشكالات الهيكلية التي تعاني منها المؤسسات العمومية بسبب الفساد والخيارات الخاطئة، فإنّ قنوات إيصال مياه الشرب تبقى خارج الاستثمار، وهو ما يؤثر فعليا وبشكل مباشر على نوعية هذه المياه. وهذا ما يساعدنا على فهم تجاوز معدّل استغلال قنوات إيصال مياه الشرب للسكان 20 عاما، وهنالك مناطق يتجاوز فيها هذا المعدل 40 عاما مع العلم ان معدّل استغلال قنوات نقل مياه الشرب مرتبطة بعنصرين هامين: نسب الملوحة والكربونات من ناحية، و درجات الحرارة من ناحية اخرى، فكلما كانت هذه النسب مرتفعة و درجات الحرارة كبيرة كلما ساهمتا في ترسّب المواد العالقة بالقنوات. ممّا يؤثر على نوعية مياه الشرب، إضافة إلى ضياع الماء من كثرة التسرّبات والأعطاب، رغم أنّ الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه تبرّر هدر مياه الشرب وضياعه بالسرقات واختراق شبكة إيصال الماء.26

أمام ضعف موارد التمويل بالنسبة للخدمات الأساسية لمياه الشرب ومياه الصرف الصحّي، تُحمّل المؤسسات المكلّفة بالمجالين تكاليف هذه البُنى والخدمات الأساسية على كاهل السكان. وهو ما أكّده تقرير أعدّه البنك العالمي حول مياه الشرب والصرف الصحّي في تونس سنة 2019، إذ أقرّ بأنّ 94% من كلفة خدمات الصرف الصحّي تُموَّل من طرف العائلات عبر معلوم الصرف الصحّي الذي يُستخلص مع فاتورة مياه الشرب، فيما تقع 6 % فقط على كاهل الدولة.27 أمّا بالنسبة للإنفاق على مياه الشرب، فقد أكّد التقرير أنّ العائلات تنفق نسبة 75 % من الكلفة الجملية. وتبعا لذلك خلُص التقرير إلى أنّ مبلغ إنفاق العائلات التونسية على خدمتيْ مياه الشرب والصرف الصحّي خلال سنة 2015 كان حوالي 671 مليون دولار، وهو ما يمثّل 1.5% من إجماليّ الانفاق العمومي الوطني لنفس السنة. وهو ما يعطي معدّل إنفاق للفرد في السنة بحوالي 66 دولار بالمناطق العمرانية، و38 دولار بالمناطق الريفية.

في مقابل ارتفاع الانفاق الفردي على مياه الشرب والصرف الصحّي في تونس، لم يتجاوز الاستثمار العمومي 17 دولار للفرد الواحد سنة 2017، وهو أقلّ بكثير من الاستثمار في الأردن (55 دولار) ولبنان (102 دولار).28 مع العلم ان المقارنة مع الأردن ولبنان مرتبط بتشابه السياسات العمومية في مجال الماء والصرف الصحي بهذه البلدان مع تونس.

يندرج ما سبق التعرّض إليه ضمن الإطار العام لسياسات البنك الدولي، سواءٌ من خلال اختيار طبيعة المشاريع المُمَوَّلة، أو عبر التركيز على المجالات التي يمكن أن تمثّل في المستقبل فرصًا للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.  إلّا أنّ نتائج هذه السياسات والتوجهات والاملاءات، منذ 1959 حتى اليوم، كانت وخيمة وكارثية في بعض الأحيان على القطاعات الإنتاجية والموارد المائية. إضافة إلى تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية المباشرة على المواطنين في أدقّ تفاصيل حياتهم وحاجياتهم. وسنحاول تلخيص أهمها في النقاط التالية.

بالنسبة للموارد المائية:

  • فشل السياسات العمومية المتعلقة بالموارد المائية، والتي قام البنك الدولي بتمويلها منذ الستينيات، وهو مصر إلى اليوم على المواصلة في نفس النهج. ممّا جعل تونس تخسر سنويا أكثر من 30% من مواردها المائية المُخزَّنَة بالسدود بسبب التبخّر.29 كما أنّ ضعف الاستثمارات العمومية في مجال حماية السدود والأحواض الدافعة من الانجراف، كبّد المجموعة الوطنية تراجع طاقة خزن السدود من الماء بسبب ارتفاع كمية الأوحال. وهو ما جعل العديد من السدود تخرج مبكّرا من المنظومة المائية الوطنية. ويضيع بقنوات الريّ أكثر من 700 مليون متر مكعب في السنة. كذلك، يُكلّف تقادم شبكات مياه الشرب حوالي 120 مليون متر مكعب سنويا، ممّا يعني أنّه يقع هدر حوالي 1.3 مليار متر مكعب سنويا بسبب السياسات المائية الفاشلة، والتي ترجع في جزء منها لسياسيات البنك العالمي. وعليه، فإنّ الشح المائي الذي نعيشه في تونس، ليس بسبب الظروف المناخية أو الموقع الجغرافي، بل بسبب فشل هذه السياسات.30
  • تغيير هيكلي لمنظومة الإنتاج الفلاحي على المستوى الوطني، إضافة إلى التخريب الممنهج للقطاع. وذلك ارتباطا بخطوط القروض التي وضعها البنك العالمي، ومنذ بداية السبعينيّات على ذمة الاستثمارات الفلاحية المعدة للتصدير. ومازال البنك يواصل تمويل مشاريع تكثيف الفلاحة السقوية خلال الفترة 2022-2024، وبقرض بقيمة 113.6 مليون يورو.31
  • هيمنة جيل جديد من المستثمرين الذين ليس لهم علاقة لا بالفلاحة ولا بالأرض. بل هم مجرّد أشخاص استفادوا من مناصبهم ومن خطوط القروض الموضوعة على ذمتهم للاستثمار في المناطق السقوية. فتمّ تبعا لذلك لإهمال الفلاحين الصغار ومنتجي الحبوب والدواجن واللحوم الحمراء والألبان، وغيرها من منظومات الإنتاج الاجتماعي. فبدأ الفلاحون الصغار في مغادرة مناطقهم وهجر فلاحتهم للبحث عن نشاط أكثر مردودية خاصة أواسط السبعينيات والثمانينيات، والتي سُمّيت بفترات الهجرة الداخلية القصوى.32
  • فتراجعت تبعا لذلك أهمية القطاع الفلاحي على المستوى الاقتصادي، إذ لم يعد يساهم سوى بحوالي 8% من الناتج المحلي الخام لسنة 2022، مقابل 17% بداية التسعينيّات. وكذلك على المستوى الاجتماعي من خلال تراجع قدرته التشغيلية إلى 12% فقط سنة 2022 مقابل 23% بداية التسعينيّات.33
  • كنتيجة حتمية لهذا التمشي، تراجع الإنتاج الوطني من الحاجيات الأساسية للسكان من خضر وغلال وحبوب وأعلاف. إذ أنّ كلّ ما بقيَ يتمتع بالماء والإنتاج هو ما كان مُعدًا للتصدير. مما عمق تبعية البلاد الى الأسواق العالمية، وخاصة للدول المنتجة للحبوب والاعلاف. ولعل ما نعيشه حاليا من ازمات متتالية في مجال الخبز والزيت النباتي والسكر وغيرها من المواد الأساسية الحياتية خير دليل على ما نقول.
  • أمّا بالنسبة لمياه الشرب، فلقد تم الترفيع في الفترة الأخيرة في أسعارها ثلاث مرات متتالية (سنوات 2020 و2021 و2022). إذ رفعت الشركة العمومية المكلفة بمياه الشرب أسعاره، ليرتفع سعر 1 متر مكعب من مياه الشرب من 200 مليم إلى 665 في ظرف ثلاث سنوات بالنسبة لشريحة الاستغلال 20-40 متر مكعب في الثلاثي. وهي الشريحة الأكثر انتشارا على المستوى الاجتماعي.
  • تردّي نوعية مياه الشرب بسبب تقادم الشبكات وضعف الاستثمار العمومي في مجال تحسين نوعيتها، خاصة أمام ارتفاع ملوحة مياه السدود بسبب ارتفاع المواد الصلبة المترسّبة بقاعها. ممّا دفع المواطن في أغلب جهات البلاد إلى استهلاك المياه المعلَّبة، فأصبح المواطن التونسي في المرتبة الرابعة عالميا في استهلاك المياه المعلّبة حسب عدد السكان (تقرير المعد الوطني للاستهلاك لسنة 2021).

بالنسبة للصرف الصحّي:

  • تُعتبر خدمات الصرف الصحّي في تونس ومازالت من الكماليات. إذ أنّ سياسات البنك العالمي متوافقة على مستوى التمويل مع خيارات السَاسة. فخدمة الصرف الصحّي ليست خدمة متلازمة مع خدمات مياه الشرب مثلما هو معمول به في جل بلدان العالم. كما أنّها ليست مرتبطة بتحسين إطار العيش الصحّي للمواطنين، ولا بحماية الموارد المائية من التلوث، بل مازالت مرتبطة بالمناطق السياحية والصناعية.
  • في ظلّ تراجع التمويل لخدمات الصرف الصحّي الأساسية، إضافة إلى غياب التمويل الأجنبي لإنجاز وتطوير تقنيات معالَجة متطورة، وتطبيقا لتعليمات ونصائح البنك العالمي المتعلقة بالعمل على تحقيق التوازنات المالية للمؤسسة العمومية المكلفة بالمجال، يقوم الديوان الوطني للصرف الصحّي منذ سنوات عديدة بالاقتصار على استعمال المعالجة الثنائية فقط، والترفيع الدوري في معلوم الصرف الصحّي، إضافة إلى اعتبار كلّ الأنشطة التجارية والخدماتية وكأنها أنشطة صناعية. وهو ما أثقل كاهل أصحاب المشاريع الصغيرة، مثل المقاهي ورياض الاطفال والمطاعم والمتاجر الصغيرة ومحلات بيع اللحوم والخضر والغلال وغيرها من المهن والمشاريع، التي تصارع الظروف الاقتصادية الصعبة لضمان البقاء.
  • نظرًا لعدم نجاعة تقنيات المعالجة لمياه الصرف الصحّي واقتصارها على المعالجة الثنائية فقط، فإنّ نوعية المياه المنتَجَة من محطات المعالجة تكون في الغالب غير مطابقة للمواصفات الوطنية، وبالتالي غير قابلة للاستعمال الصناعي والفلاحي. لذلك، وبسبب هذا التمشّي، يتم هدر حوالي 270 مليون متر مكعب من المياه المعالجة سنويًا في البحر أو في الأودية والسباخ. ولا يعاد استعمال إلّا نسبة ضعيفة منها بحوالي 4%.
  • بحجّة غياب التمويلات الخارجية، وضعف الاستثمار العمومي، يجد الديوان الوطني للصرف الصحّي نفسه مُجبَرا على تقليص دوره في البلديات الصغيرة والداخلية في حدود تجميع مياه الصرف الصحّي وبنسب ضعيفة، وإلى تصريفها خامًا دون معالجة بالمحيط الطبيعي، ممّا فاقم من حالة التلوث بهذه المناطق، وأثر على إطار عيش السكان فيها (انتشار الباعوض والروائح الكريهة بمناطق تصريف هذه المياه الخام والتي في الغالب ما تكون في الاودية القريبة من المدن. مما يهدد سلامة الموائد المائية السطحية، ويفاقم من إمكانية انتشار الامراض الجلدية وغيرها من التأثيرات السلبية الناجمة عن تصريف هذه المياه دون معالجة في المحيط الطبيعي).
  • لم تطوّر تجارب الإفراق واللزمات، التي طُبقت في مجال الصرف الصحّي في تونس منذ 1997، لا من جهة تقنيات المعالجة لمياه الصرف الصحّي ولا حسّنت من نوعية المياه المعالَجة. بل كان الرابح الأكبر منها القطاع الخاص والرأسمال الأجنبي، الذي جنى الأرباح ولم يطوّر لا تقنيا ولا تكنولوجيا محطات معالجة المياه التي استغلّها وأبقى عليها كما تسلّمها من المؤسسة العمومية المكلفة بمجال الصرف الصحّي.
Tunisia produce Photo by McKay Savage Flickr

McKay Savage/Flickr/CC BY 2.0

Produce in a market in Tunisia.

خلاصة

إذا كانت نُدرة الماء في تونس مرتبطة بالمناخ وبالموقع الجغرافي، فإنّ الشحّ المائي وأزماته التي تكرّرت خلال الفترات الأخيرة، ليست إلّا نتيجة منطقية، إن لم نقل حتمية، للسياسات العمومية المرتبطة بالماء من ناحية، وللخيارات الاقتصادية، خاصة منها المرتبطة بالإنتاج الفلاحي والصناعي من ناحية أخرى. أمّا بالنسبة لخدمات الصرف الصحّي، التي كانت ومازالت في جلّ بلدان العالم مرتبطة بالماء وحمايته من التلوث، فإنها في تونس ومنذ انطلاقتها سنة 1974 إلى الآن، ماتزال من الخدمات الكمالية وليست الأساسية.

لقد حاولنا من خلال هذه الورقة البحثية أن نقدّم عرضا مفصّلا لسياسات البنك العالمي، ولنتائج هذه السياسات والخيارات المفروضة بشكل مباشر أو   غير مباشر في مجاليْ الموارد المائية والصرف الصحّي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسكان باعتبارهم الحلقة الأضعف في هذه السياسات.

  ففي مجال الماء، تم التأكيد على أنّ أزمة المياه في تونس هي أزمة هيكلية متمحورة حول فشل السياسات العمومية والخيارات الاقتصادية المرتبطة بالماء. وما ندرة الماء سوى واقعا جغرافيا استطاع الانسان في تونس طوال تاريخه أن يتأقلم معه.

أمّا بالنسبة للصرف الصحّي، فإنّ هذه الخدمة العمومية مازالت في مستوى الكماليات. إذ أنّ عدد البلديات المُتبنّاة من طرف الديوان الوطني للتطهير لا يتجاوز 193 بلدية من جملة 350 على المستوى الوطني.34 كما أنّ خدمات الصرف الصحّي مركّزة أساسا بالمناطق الساحلية   والسياحية. وذلك في علاقة مباشرة بخيارات "سوْحلة" التنمية التي وقع تنفيذها في تونس منذ الستينيّات حتى اليوم

بالنسبة لتمويلات البنك العالمي للمشاريع في تونس، وخاصة في مجالي الماء والصرف الصحّي، فقد حاولنا رصد مسار هذا التواجد المكثف للبنك العالمي ومؤسساته المالية منذ بداية الستينيّات حتى الساعة. كما حاولنا رصد طبيعة المشاريع المُمَوّلة وأهدافها في علاقة بالتشجيع على الخيارات والتوجهات الرأسمالية القائمة على دفع الدولة للتخلي عن أدوارها لصالح القطاع الخاص. ولعلّ ما تم تقديمه من أمثلة وأرقام، يتيح لنا أن نستنتج أنّ سياسات البنك العالمي في تونس في مجاليْ الماء والصرف الصحّي كانت مبنية على الأهداف التالية:

  • استهلاك الموارد المائية المحلية لفائدة انتاج مواد فلاحية وصناعية موجهّة كلّيا للتصدير.
  • تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي على استغلال المناطق السقوية المنجزة بقروض البنك العالمي، لتلبية حاجيات الخارج.
  • عدم إسناد قروض بالنسبة لمشاريع الخدمات المباشرة للمواطنين في مجال مياه الشرب والريّ للفلاحين الصغار.
  • التركيز في التمويل على البُنى التحتية الكبرى في مجاليْ الماء والصرف الصحّي، باعتبارها مشاريع قابلة أن تتحول إلى أهداف خصخصة.
  • توجيه الدعم التقني واللوجستي والدراسات القطاعية نحو خصخصة قطاعي الماء والصرف الصحّي

وكان لهذه السياسات تأثيرات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للسكان، سواءٌ بشكل مباشر أو غير مباشر. إذ كان لهذه السياسات، وما تبعها من تخلي الدولة التدريجي عن أدوارها الاجتماعية والأساسية في مجال خدمات الماء والصرف الصحّي، الأثر البالغ على مستوى:

  • ارتفاع أسعار مياه الشرب.
  • تراجع نوعية المياه بسبب ضعف الاستثمارات العمومية في مجال تجديد الشبكات الأساسية لنقلها وإيصالها.
  • ارتفاع إنفاق العائلات التونسية على خدمات الماء والصرف الصحّي.
  • تراجع إنتاج المواد الأساسية من حبوب وأعلاف وخضر وغلال خلال السنوات الأخيرة، بسبب تراجع مخزونات السدود وارتفاع الاجهاد المائي للموائد الجوفية.
  • تأثيرات سلبية كبيرة على المنظومات الأيكولوجية، جراء تصريف مياه صرف صحي غير مطابقة للمواصفات، أو تصريفها بدون معالجة في أغلب البلديات الصغيرة، ممّا فاقم من المخاطر البيئية التي تهدّد هذه المنظومات الهشة في ظلّ استفحال مظاهر التحولات المناخية في الفترة الأخيرة.

وفي الختام، ولئن استطاع البنك العالمي، من خلال قروضه وسياساته المعلنة وغير المعلنة، دفع الساسة في تونس إلى خصخصة جزء من خدمات الصرف الصحّي، ليتوّج مجهوداته بإنجاز مشروع الشراكة بين القطاعيْن العام والخاص خلال شهر ماي 2023، فإنّه لم يستطع أن يخصخص قطاع الماء بشكل عام، ولا حتى مياه الشرب بشكل خاص. ومردُّ ذلك إلى العمل الجبّار الذي أنجزته جمعيات المجتمع المدني والمنظمات التقدمية والأحزاب الديمقراطية، خاصة خلال العشرية الأخيرة.

 

Ideas into movement

Boost TNI's work

50 years. Hundreds of social struggles. Countless ideas turned into movement. 

Support us as we celebrate our 50th anniversary in 2024.

Make a donation